بودابست- يقدم معرض الحرب العالمية الأولى في متحف التاريخ الأوروبي ببروكسيل، مشاهدا تجعل الزائرين يتأملونها طويلا. وفي لفتة بسيطة، لكنها درامية، وضع المتحف المُسَدَّس الذي استُعمل في اغتيال أرشدوك فرانز فيرديناند في حجرة زجاجية وسط بهو المتحف.
وأخبرنا مرشد المتحف الذي كان يرافقنا في جولتنا، أنه بعد النقاشات المكثفة والساخنة، وافق المتحف على تغيير معروضاته من حين لآخر، حتى تتمكن دول أخرى من عرض آثارها التاريخية الأكثر قيمة. لكن، عندما قلت ملاحظا أن المسدس الذي استعمله غافريلو برينسيب في سراييفو لا يمكن استبداله بمسدس آخر، رد أمين المتحف أن أربعة متاحف أوروبية تدعي أنها تعرض المسدس الأصلي.
ورغم أنني أحترم تعددية التقاليد القومية الأوروبية وأدافع عنها، فقط مسدس واحد وليس أربعة، أدت إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى. ولا يمكننا أن نكون “تعدديين” و”شاملين” عندما تعطي الحقائق التاريخية، فقط جوابا واحدا صائبا للرد على سؤال معين. ومن ينبغي أن يرد على مثل هذه الأسئلة هم الخبراء الذين تلقوا تكوينا دقيقا جدا في التاريخ ( وتلقوا تدريبا في المصادر التاريخية) لِحقبة معينة، وليس هؤلاء الذين لديهم أجندات سياسية.
وقد يعتبر هذا الرأي فطرة سليمة. لكن العلماء ومؤسساتهم، وشرعية المعرفة العلمية نفسها، مهددون بشكل متزايد في مختلف الدول الأوروبية. ومنعت الحكومات المنتخبة بطريقة حرة دعما ماليا موجها لمشاريع البحث دون إعطاء تفسير رسمي (بلغاريا)، وسحبت برامجا تعليمية من لائحة المواد المقرر تدريسها في الجامعات المعترف بها (هنغاريا)، بل ألغت تخصصات بأكملها (بولندا).
وتتجاهل هذه الحكومات تقاليد الجامعات التي دامت لمئات السنين، والتي حظيت بالاحترام حتى خلال الحقبة الشيوعية. لكن القوى وراء هذه القرارات لا يعنيها خلق حقائق تاريخية وعلمية، وهي مستعدة لانتقاد هؤلاء الذين سبق وأن اكتسبوا هذه المعرفة والسخرية منهم، بل حتى تهديدهم أو، رغبتهم بفعل ذلك.
وعلينا أن نرفض فكرة أن هؤلاء الذين يُحرِّضون على هذا الهجوم جَهَلة، ولم يتلقوا تعليما، ولا يحترمون المعرفة. إذ سبق لكبراء أعضاء البرلمان الهنغاري الذين أجبروا الجامعة الأوروبية المركزية، التي أسسها الممول جورج سوروس ، على الانتقال إلى فيينا ومنعوا الدراسات الجندرية، أن تلقوا منحا من مؤسسة المجتمع المنفتح لسوروز، للدراسة في أوكسفورد، ونيو يورك ومُدنا أخرى. فهؤلاء أشخاص يتمتعون بمستوى عال من المعرفة، ويدركون أن المعرفة تعني القوة، ولديهم أجندات واضحة، ويستغلون كون التعليم في الاتحاد الأوروبي مسؤولية الحكومات القومية، وليس المؤسسات المتمركزة في بروكسيل. وتريد هذه الحكومات تأسيس نظام تعليمي، تعتمد عليه الدولة في اتخاذ قرارات لوحدها بشأن مجالات البحث الضرورية والمهمة اجتماعيا. وعلى المدى البعيد، من المحتمل أنها تريد أيضا، أن تمنح الدولة للسياسيين الأوفياء، الحق في إنتاج المعرفة ونقلها.
وبمعنى آخر، لن تبقى المعرفة حقا مدنيا في المستقبل. وستحدد السياسة التي تحظى بالثقة، من يمكنه أن يُدَرِّس، وما الذي يمكنه أن يدَرَّس بشأن بلد معين وتاريخه. وهذا يعني إلغاء ديمقراطية التعليم العالي والعلوم بشكل عام، ووضع “الخبراء” في خدمة الأهداف المناهضة للديمقراطية الواسعة النطاق. ولمنع تحقيق تلك الأهداف، ينبغي مقاومة ما ذكرناه في السابق.
إن سياسات العلوم الديمقراطية مبنية على مبدأ أن الولوج للعلوم حق إنساني. كما أنها ترجح بشكل صائب، أن المعرفة التي تنتَجها روح استعلام ديمقراطية أكثر جودة من تلك التي ينتجها شخص أصبح “خبيرا” من خلال العلاقات السياسية.
وهناك أجوبة مباشرة للعديد من الأسئلة في العلوم الاجتماعية والإنسانية. وفي نهاية المطاف، علينا قبول أحكام الخبراء الذين كرسوا حياتهم المهنية لقضية معينة، وليس هؤلاء الذين لديهم آراء سياسية، يحاولون إقناع الناس بصحتها.
وعلينا، بالتالي، التصدي للموجة المزعجة للحكومات الأوروبية التي تمنح نفسها حق اتخاذ القرار بشأن القضايا العلمية، وتعيين مؤيدين مخلصين للعب دور حكام الحقيقة. وعلينا أن نتساءل ما إذا كانت المعاهد والجامعات الجديدة المتخصصة في البحث الحكومي المبني على الأيديولوجيات في بعض هذه الدول لديها مكان تستحقه في شبكة الجامعات الأوروبية وفي مؤسسات البحوث.
ويعمل العلماء الاجتماعيون وغيرهم من الأكاديميين من جديد في أوروبا التي كانت شيوعية سابقا في مناخ فكري يزداد إرهاقا. ولا ينبغي أن يرجع القرار لهم لوحدهم في الدفاع عن البحث الديمقراطي عن المعرفة ضد هؤلاء الذين سيقررون بموجب مرسوم حكومي أي مسدس أطلق به النار في ساراييفو.
المصدر: PS، موقع “اللواء”